[هذه المادة هي جزء من ملف خاص بعنوان "كبرت النكبة". وهو ملف متنوّع حول نكبة فلسطين ستقوم "جدلية" بنشره على مدار الأسبوعين القادمين.]
"امتلأت الطريق حول بيت جدتي (في يافا) بملصقات عن آية الله الخميني وأعلام حزب الله. وقفتُ مع مجموعة من الأطفال أنتظرُ بداية تصوير الفيلم… فجأة ظهرت سيارة رسم على بابها اسم مدرستي "القديس يوسف" وقف فيها رجلان أشقران يطلقان النار عشوائياً… اذكر أنّ الأولاد قالوا لي إنّ أحد الرجال كان الممثل الأميركي تشاك نوريس".
(كمال الجعفري)
بدأت قصة المخرج الفلسطيني كمال الجعفري مع تشاك نوريس عام 1986 حين شهد على تصوير فيلم ”ذا ديلتا فورس" (إنتاج إسرائيلي- أميركي مشترك) في شوارع يافا. ويروي الفيلم قصة طائرة أميركية اختطفها "إرهابيون لبنانيون" أدّى دورهم ممثلون إسرائيليون طاردهم نوريس فأنقذ رهائن الطائرة من موتٍ وشيك. وإذ بالفيلم يذهب بنا الى بيروت الحرب الأهلية التي تجلت في المخيال السينمائي الاسرائيلي في شوارع يافا القديمة. وكان في يافا ما كان في بيروت: حرب شوارع ودمار وقتل وعنف مجاني، حتى أنّ المخرج الإسرائيلي مناحيم جولان، وبداعي الواقعية السينمائية، هدّم مبنى يافاوي أمام أعين الجعفري ورفاقه الذين أزاحهم الفيلم من مدينتهم وغيّر معالمها.
عشرون عاماً بعد موقعة يافا السينمائية، عاد الجعفري إلى سوريالية المشهد وبدأ يغوص في عالمٍ موازٍ اكتشف فيه أكثر من خمسين فيلماً إسرائيلياً وأميركياً صورت في أحياء يافا القديمة في السبعينيات والثمانينيات ورأى كيف أنها أزالت سينمائياً وخطابياً أثر سكان الحي وحكمتهم بالصمت. المحو السردي والهدم المادي، وإن كانا سينمائيين، ذكّرا الجعفري بأسئلة عن الذاكرة وبلاغة الصمت كان قد طرحها في أفلامه التسجيلية والروائية السابقة، ومنها "السطح" (2006) و"ميناء الذاكرة" (2010).
ففي مشروعه الجديد هذا، أعاد الجعفري توزيع الأدوار، فقام بعملية تقصٍّ جمع فيها الأفلام الأميركية والإسرائيلية التي صُوِّرت في يافا وفكّكها إلى أكثر من عشرين ألف صورة خلفية ومن ثمّ كبّرها مزيلاً أثر الممثّلين الأميركيين والإسرائيليين منها. فواجه المحو بمحو مضادّ والنفي بنفي بديل حيث لم يعد لهذه الشخصيات الطارئة أيّ أثر. فعند انتهائه من عملية المحو والتكبير الدقيقة تلك، ظهر للجعفري ما كان قد نسي المخرجون الأميركيون والإسرائيليون أن يمحوه في خلفية المشاهد: معالم يافا المضمرة وأطياف وجوه سكانها الذين غُيِّبوا، يطاردون الكاميرا حيناً ويقطعون شارعاً حيناً اخراً، وجوه اعاد الجعفري تركيبها في فيلم صامتٍ جديد قام على انقاض أفلام المحو التي شهد على تصويرها في طفولته.
يأخذنا فيلم الجعفري التسجيلي والروائي والتصويري والأرشيفي هذا إلى مضامين دلالية يقدم فيها رؤية جديدة للفقدان والذاكرة. إلاّ أنّه، وإذ حاكى ثيمة مكرسة في الأدب والفنّ الفلسطيني كثيمة الذاكرة، يطرح أبجديةً جديدةً لقراءتها عبر تكوين ذاكرة على أنقاض أخرى حاولت محوها. فهو لا يبحث ويجمع ويرتب لكي يعرّف ويسرد ويؤرشف فحسب، بل يفكّك الرواية الأصلية ويمحوها، يخبر ولا يجزم، يقول ولا يتكلّم، في لغة حميمية تواجه أفق الكلام المسدود بصمتٍ مشهدي بليغ.
["ميناء الذاكرة" ( 2010)]
ينضم مشروع الجعفري إلى تجارب سينمائية وتسجيلية فلسطينية معاصرة آثرت الصمت ولم تُجبر عليه. ففيما وقف إيليا سليمان في”سجل إختفاء” في محاضرة له ينصت ولا يتكلم، ينظر الى الشرطة الإسرائيلية تقتحم منزله ولا يقول شيئاً، واجه الجعفري في "ميناء الذاكرة" عبثية عنف تشريد عائلة من بيتها على شاطئ يافا بصمتٍ لاذع، ليس لأن شخصيات سليمان والجعفري غير قادرة على الكلام، بل لأنها غير آبهة به. يتحوّل الصمت في أفلامهما الى لغة شعرية مغايرة لا تترفّع عن السياسة، بل تحدّد مكامنها وتصطدم بها بأسلوب شعوري مقتضب. فهي أولاً تتّخذ من المحو الذاتي للصوت منهجاً لمقاومة سياسة المحو الإسرائيلية حيث تحول الصمت إلى شبح يسكن الصورة الإسرائيلية الأصيلة ويُؤرقها. وتشير هذه الأفلام ثانياً إلى ما قد تحجّر في جماليات تصوير الهوية الفلسطينية وتفكّكه. لكنّ في الحالتين تعيد هذه الأفلام الاعتبار للصمت كبديل لخطاب فني يواجه فائضاً تعبيرياً كاد يفرغ الكلمة من سطوتها والسياسة من معناها.
——
يعرض فيلم كمال الجعفري والصور المرافقة له في معرض Aftercinema في "مركز بيروت للفن" حتى 21 آب.